الثلاثاء، 15 أبريل 2014

نحو منهج رشيد ..

بسم الله الرحمن الرحيم
﴿أليس منكم رجل رشيد﴾
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله
مقدمة
إن ما دفعني لكتابة هذه الورقات إحساسي بأننا –كجهاديين- نستنفد الفرص التي يهبنا إياها الله عز وجل لنستفيد من الدروس ونتعلم من أخطائنا، فهذه الساحة الشامية بعد أن أكرمها الله في فرصة استثنائية طال انتظارها أكثر من ربع قرن بالثورة على الطاغية, وراجت سوق الجهاد فيها, على وشك اللحاق بأختيها العراقية والجزائرية -إلا أن يتداركها الله برحمته-، وهذا ما نرجوه لأن النبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن الله تكفل له بالشام وأهله, وأن الشام خيرة الله من أرضه يجتبي إليها خيرته من عباده، وسبب ذلك -إضافة لمكر الكفر العالمي بها- إعراض الجهاديين عن التعلم من أخطائهم وضعفهم الشديد في قضية مواكبة الحدث، فصاروا عبئاً على الساحة ومصدر إزعاج لها بدل أن يكونوا المنقذ والدليل، ومحاولة التبرير دوماً بأن المنهج قد سرق، أو أنها شذوذات فردية من بعض الغلاة الذين تطفلوا على المنهج وليسوا من أهله.
أرى الحاجة ملحة لدق ناقوس الخطر قبل أن تضيع الشام من أيدي الأمة مرة أخرى, والنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب, وأخبرنا أنه إذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم, وبالجمع بين الحديثين يتبين لنا أن الشام "قلب الأمة"، فقلب الأمة الآن مهدد بالانهيار وأهل الشام بعد أن تبنوا الهوية الإسلامية لثورتهم واحتضنوا أهل الجهاد والمنهج، بدؤوا في مراجعة موقفهم بعد أن رأوا جرائم من ينسب للتيار الجهادي, وتكفيرهم إياهم, واستحلالهم لدمائهم وحرماتهم, وقد تنتهي القضية كما انتهت في كثير من الساحات إلى أن يحتضنوا المشروع الغربي, أو يرتموا في أحضان الكفر العالمي للخلاص! وقد بدأت بوادر وعلامات لذلك ونسأل الله اللطف.
أعلم أنني في كلامي سأجرح مشاعر كثيرين, وسأقسو عليهم بعض الشيء, ولعل كثيراً منهم خير مني عند رب العزة, ولعل كثيراً منهم أفضى إلى ربه بعد أن قضى في ساحات الجهاد مقبلاً غير مدبر وهو الآن في حواصل طير خضر يسرح من الجنة حيث يشاء يضحك لهم الجبار، ولكن تكررت ظاهرة تمكن الغلاة في الساحات الجهادية وإفسادها, وهذا ليس أخطاء فردية, أو أن المنهج "سرق" كما يُدَّعى, بل لا بد من مراجعة شاملة للمنهج وسبر أخطائه ومحاولة إصلاحها فالله عز وجل أمرنا أن نسير في الأرض ونعتبر فلن نتمكن من إصلاح أنفسنا إذا أهملنا سنة الاعتبار.
أقول هذا وأنا ابن هذه المدرسة حملت منهجها منذ نعومة أظفاري, وقاتلت وسجنت في سبيلها, ولا أذكر ذلك إلا قطعاً للطريق على أهل المزاودات الرخيصة ومحاولات التخوين، والله عز وجل علمنا ألا نأمن مكره وعلمنا أن نكون من الذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون, ولما سألت عَائِشَةُ، زَوْجُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَتْ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ} قَالَتْ عَائِشَةُ: أَهُمُ الَّذِينَ يَشْرَبُونَ الخَمْرَ وَيَسْرِقُونَ؟ قَالَ: " لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ، وَلَكِنَّهُمُ الَّذِينَ يَصُومُونَ وَيُصَلُّونَ وَيَتَصَدَّقُونَ، وَهُمْ يَخَافُونَ أَنْ لَا تُقْبَلَ مِنْهُمْ.
أكتب هذا بعد أن رأيت كثيراً من أبنائه يرفضون الاعتراف بأن هناك خللاً في أصله وفلسفته, ويصرون أن المنهج بصورته الحالية حق، لكنه يسرق كل مرة من قبل هؤلاء المفسدين.
وقبل أن أنتهي من تسويد هذه الورقات إذا بي أفجع باستشهاد شيخي وأميري وحبيبي الغالي، شيخ المجاهدين ودرتهم، علم من أعلام الجهاد في هذا العصر، من أمضى أربعة عقود من عمره مجاهدا في سبيل الله ومصاحباً لمشايخ الجهاد وأعلامه شيخنا "أبو خالد السوري"، على يد الخوارج الآثمين، اغتالته يد الغدر في حلب الشهباء وهو يوجه ويرتب إخوانه لدفع النصيرية عنها، فالله المستعان، والله إنها لمصيبة عظيمة، نسأل الله أن يأجرنا فيها ويبدلنا خيرا منها.
هذا الحدث العظيم زادني حرصاً على إتمام هذه الرسالة صيانة للمنهج من تلاعب الغلاة، ووفاء للشيخ الذي كان يحذر منهم أشد التحذير، وكان يخبرنا أنهم أفسدوا ساحات الجهاد، وسيفسدون الساحة الشامية إن لم تقف الأمة صفاً واحداً في مواجهتهم.
هذه الدراسة من داخل التيار ومن أرض الواقع مباشرة, أرجو أن يكون وصفي للواقع فيها بلا حيف ولا شطط, فما كان منها من صواب فمن الله, وما كان من زلل فمني ومن الشيطان, وأسأل الله أن يوفقني وإخواني لما فيه خير الأمة بإذن الله.

أبو أيمن الحموي
حلب
26/ربيع الثاني/1435للهجرة












معركة المصحف
إن للحق مذ خلق الله الأرض ومن عليها حرباً يخوضها مع أهل الباطل تختلف معالم معاركها من عصر لعصر ومن زمن لآخر؛ فمن المعروف أن أهل الباطل لا يردون الحق كله جملة واحدة, بل قد يكونون متمسِّكين ببعضه مع إعراضهم عن بقيَّته, فها هم أهل الجاهلية الأوَل زمن النبي صلى الله عليه وسلم كانوا مقرِّين برب العزة تبارك وعلا خالقاً ورازقاً ومدبراً وحيداً ﴿ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله﴾ ﴿ولئن سالتهم من خلق السموات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم﴾ ﴿ولئن سألتهم من نزَّل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله﴾؛ لكنهم كانوا يرفضون ويأبون أشد الإباء إفراده بالقصد والعبادة, وعلى هذا قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وأردى كبارهم في القليب يوم بدر، فهم كما ترى أقروا بشيء من التوحيد وهو توحيد الربوبية, وأشركوا في الطلب والقصد.
والمرتدون زمن أبي بكر رضي الله عنه كانوا مقرِّين بالدين كله إلا أن منهم من آمن بنبي بعد محمد صلى الله عليه وسلم وهم أتباع مسيلمة, ومنهم من منع الزكاة هذا مع انتسابهم لدين الإسلام وإقرارهم بأحكامه (مع اختلاف العلماء في توصيف مانعي الزكاة).
ونلخص فوائد ما سبق بما يلي:
1ـ أول مَعْلَم من معالم المنهج الرشيد الإيمان بالكتاب كله ﴿يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان﴾ والسلم هنا هو الإسلام، فأتباع الرسل يؤمنون ويعملون بالدين كله أما السائرون على درب بني إسرائيل فإنهم ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض﴾.
2ـ لا يلزم لأهل الباطل أن يكونوا معرضين عن الحق كله لا يقبلون شيئا منه حتى يكونوا من أهل الباطل بل قد يكون عندهم قبول لشيء من الحق والرشد ولا يخرجهم ذلك من صف الباطل حتى يقبلوا الحق كاملاً.
3ـ إدراك الحق كاملاً شيء يعجز البشر عنه فليس كل تارك لشيء من الحق من أهل الباطل ما لم يكن ما أعرض عنه من أساسيات الدين التي جاهد الأنبياءُ وأتباعهم للحفاظ عليها, وسبيل معرفة أساسيات الدين, العودة لعلماء سلف الأمة وتلقيها منهم.
4ـ معركة المصحف قد تتغير معالمها من زمن لآخر بحسب ما يرده أهل الباطل من الحق والدين في ذلك الزمن, فقد تكون مع عباد الأصنام أو مانعي الزكاة أو الباطنيين القرامطة.
أهل الحق
إن أهل الباطل مهما كانوا أقوياء وظاهرين وممتلكين لأسباب القوة المادية فإنهم لا يستطيعون -وحياة نبينا خير مثال- الظهورَ على أهل الحق ما داموا متمسكين به معتصمين بحبل الله مهما كان ضعفهم ظاهراً في المقومات المادية مع أخذهم بالأسباب وبذلهم للوسع، وإن أي اختلال في هذه المعادلة مرده إلى انحرافات حقيقية وبعد عن المنهج عند أهل الحق. ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾. ومعنى قوله "يعفو عن كثير" أنه ليس أي انحراف يكون سبباً في ضياع التمكين, بل لا بد له أن يكون أكثر من هذا الكثير, فليبحث من يظنون أنفسهم أصحاب المنهج الحق والطائفة المنصورة عن هذا الكثير الذي كان سبباً لضياع تمكينهم في كثير من ساحات الجهاد التي أحرزوا تقدماً فيها ثم دارت الدائرة عليهم كالعراق والجزائر مثلاً, وأبدلوا بعد عزهم ومنعتهم ذلاً وانكساراً, وهذا بابٌ عظيمٌ قد يكون سبباً في نجاة من تفطن له وأخذ يبحث عن مقومات الفشل الداخلية في نفسه, وهذا مقتضى النفس اللوامة, بدلَ أن يرمي الأسباب على تكالب الأمم ووجود العملاء والصحوات وما شابه. وهذا أيضاً يردنا إلى الفقرة الأولى وهو الدخول في السلم كافة.







السلفية الجهادية
إن السلفية الجهادية التي تسنمت مراكز القيادة والسيادة في الساحات الجهادية فشلت فشلاً ذريعاً وأخفقت إخفاقاً حاداً، في حل مشكلة الأمة مع كونها بذلت الدماء والأشلاء وفارقت الأهل والأوطان وقاست غياهب السجون والمعتقلات؛ ولم تفلح إلا في ضرب أمثلة الشجاعة والفداء وإذكاء روح الجهاد في الأمة، إضافةً إلى مناصرتها للمستضعفين من المسلمين الذين صالت عليهم الجاهلية وخذلتهم الأمة الإسلامية، لكنها جنت على المشروع الإسلامي أيما جناية ودمرته ونفرت الناس منه بل وفرخت في الساحات التي تمكنت فيها أصنافاً من الغلاة والخوارج عاثوا فساداً في الأرض وولغوا في دماء الأمة ونفروا الناس من الإسلام وأجهضوا المشروع ورموهم في أحضان الطواغيت.
أبرز ما فشلت السلفية الجهادية في تحقيقه هو التوحد مع الأمة والاندماج معها وجرها إلى مشروعها، فما حصل في كثير من الساحات هو فشل السلفية الجهادية في إقناع الناس بمشروعها، فتحولت إلى تنظيمات أصولية شاذة منبوذة من مجتمعاتها، مما سهل على الجاهلية عزلها عن مجتمعاتها ثم تصفيتها، وسنرى في ثنايا هذه الدراسة بإذن الله ما هي أسباب فشل هذا التيار في إقناع عوام المسلمين بمشروعه كونه بنى هذا المشروع على أسس نخبوية مستعلية على الناس، ولم يحاول امتلاك المقومات الطبيعية لبناء دولة الإسلام التي ينشدها.
العقلية والفلسفة التي تبناها هذا التيار لإقامة دولة الإسلام هي عقلية التنظيم النخبوي المدرب والمجهز بالكوادر أصحاب الفكر والرؤية والإمكانات والذي يقوم بإسقاط النظام الجاهلي ثم تقوم الأمة بمبايعته فيقيم دولة الإسلام.
هذه النظرية أثبتت فشلها في جميع الساحات لأن نتيجة المواجهة بين التنظيم والنظام الجاهلي المدعوم من كل طواغيت العالم غالباً ما تكون نتيجتها لمصلحة الطواغيت، إذ أن الأمة بالنسبة للتنظيم في حرب العصابات كالماء للسمكة، فلما نجحت الجاهلية بعزل التنظيم عن محيطه سهل عليها القضاء عليه وتصفيته، وقد أدرك كبار المنظرين في التيار الجهادي ممن سلموا من الغلو هذه المسألة فنبهوا عليها ومنهم الشيخ أبو مصعب السوري في كتابه الأخير دعوة المقاومة العالمية، وتجلى هذا الفكر واضحاً في خطابات الدكتور أيمن الظواهري عن الساحة الشامية مؤخراً، لكن صرخات النذير الخجولة هذه ضاعت بين ضجيج الخوارج ومعرفاتهم الوهمية على التويتر والفايسبوك.
ويجدر بي التنبيه إلى أنني عندما انتقد مظاهر الانحراف في التيار السلفي الجهادي وأشير إليها فإنني لا أعني أبداً أنَّ التيار السلفي الأصيل الذي تمسك بعقيدة سلف الأمة الصالح ومنهجها وجاهد لينفي عن الأمة الزيغ والانحراف والبدع والخرافات، هذا التيار الأصيل الذي حمل لواءه علماء أعلام كابن تيمية والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد وأمثالهم من العلماء الكبار الذين حفظوا للأمة منهجها البراق، وأظهروا قيمة العلم والعلماء؛ هؤلاء هم أئمتنا وساداتنا. لكن كلامي وانتقادي عن التيار الذي يسمى بالسلفي بدأ الانحراف فيه ببعض كتابات الدعوة النجدية وتابع هذا الانحراف إلى أن أفرز لدينا ما يعرف بالتيار السلفي, جهادياً كان أو علمياً، ومعظم أبنائه اليوم مع تعظيمهم وإجلالهم لأصحاب الخط الأصيل بل ونسبتهم أنفسهم لهم إلا أنهم حادوا عن كثير من هذا النهج واتخذوا لأنفسهم خطاً آخر سنتكلم عن انحرافاته في هذه الرسالة بإذن الله.










مظاهر الانحراف في السلفية الجهادية
أولاً: الكبر
(بطر الحق وغمط الناس)
عرَّف نبيُّنا صلى الله عليه وسلم الكبرَ أنه بطر الحق وغمط الناس, ومعنى "بطر الحق" ليس  مجرد رده, إذن لقال رد الحق, بل رده ازدراءً وتكبراً, وكيف يكون هذا الازدراء؟ إمَّا ازدراء صاحبه وإسقاطه, أو تكبراً بأن الحق لا يخرج عنا فكيف يأتي به فلان ﴿لو كان خيراً ما سبقونا إليه﴾ كيف ونحن أهل المنهج ولنا سابقتنا ونحن أهل الثغور الذين تكفل الله بهدايتهم (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقد قال العلماء إذا أشكلت عليكم الأمور فعليكم بأهل الثغور؟!!!!!!!.
أذكر أنني قمت بزيارة مع أخ لي بزيارة إحدى المحاكم الشرعية التي أنشأها إحدى كبرى الفصائل المجاهدة في الشام في إحدى المناطق بعد تحريرها للنظر في قضايا الناس وتصحيح عقودهم ومعاملاتهم وفق الشريعة, فلاحظنا عدم كفاءة في الإخوة المتصدرين للقضاء وفض الخصومات, فأشرت على الأمير أن يضعوا فلاناً أعرفه من أصحاب الأهلية قاضياً, فردَّ عليَّ أنه أشعري وليس من أصحاب المنهج؟! وما ذنب القضاء والأموال والأعراض إذ لا علاقة لها بالمنهج, فقلت له: ماذا  لو أتاك ابن حجر والنووي والقاضي عياض أكنت أيضاً مانعاً إياهم من القضاء لأنهم ليسوا من أصحاب المنهج؟!
الكبر من أعظم الذنوب الماحقة للعمل والموجبة لغضب الرب جل وعلا، قال النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا يَحْكِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: «الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، فَمَنْ نَازَعَنِي رِدَائِي قَصَمْتُهُ». وقد يعجز الشيطان عن إيقاع أبناء الجماعات الإسلامية في الكبر المجرَّد -الشخصي- فيوقعهم في الكبر المؤول, وأعني به الكبر بالحزب أو الفصيل الذي ينتمون إليه, فيقع أكثرهم فيه ظانين أنه من باب الاستعلاء والعزة بالدين فيتعاملون مع الناس وكأن جماعتهم هي الجماعة الوحيدة التي تحمل المشروع الإسلامي وباقي الجماعات والفصائل حظها منه التبعية لهم ومبايعتهم, وبدون ذلك لا شرعية لها وما هي إلا مشاريع صحوات مستقبلية ضد الإسلام. وللخلاص من الوقوع في هذا الشَّرَك الخطير علينا التنبه لبعض النقاط:
أولاً: الذنوب الباطنة وأمراض القلوب كالكِبر والعُجب وحب الرياسة واحتقار المسلمين لا شك أنَّها أعظم وأكبر عند الله من كثيرٍ من المعاصي الظاهرة, وهي كلها من كبائر الذنوب عند المحققين من العلماء، وتأمل هذه الأحاديث: «لَوْ لَمْ تَكُونُوا تُذْنِبُونَ لَخَشِيتُ عَلَيْكُمْ مَا هُوَ أَكْثَرُ مِنْهُ, الْعُجْبَ»، «يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ»، «مَا ذِئْبَانِ جَائِعَانِ أُرْسِلَا فِي غَنَمٍ بِأَفْسَدَ لَهَا مِنْ حِرْصِ المَرْءِ عَلَى المَالِ وَالشَّرَفِ لِدِينِهِ»، «حَسْبُ امْرِئٍ مِنَ الشَّرِّ، أَنْ يَحْقِرَ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ» ومن يأمن على نفسه من هذه الأمراض التي أكثرها ماحقٌ للعمل مسببٌ لسخط الرب؟! فلا تَغُرَّنَّكَ العبادات الظاهرة وترك المعاصي الظاهرة فلعل تاركاً للدخان يكون بقلبه من تلك الأمراض أضعاف أضعاف ما عند المدخنين، فرُبَّ انكسارٍ وندمٍ أعقبته معصية خير من عز واستكبار بعد طاعة، والله عز وجل غني عن عملنا وعبادتنا.
ثانياً: الولاء للمشروع الإسلامي لا يكون فقط بالمظاهر والمُسوح كرفع الرايات التي يكتب عليها الشهادتان ـ ولم يثبت في السنة أن راية النبي صلى الله عليه وسلم كان مكتوباً عليها شيء أصلًاـ ومثل ذلك التزام زي معين وليست القضية فقط بإرخاء اللحى وتقصير الثياب بل لا بد من تمكن الولاء لدين الله في القلب واستحكامه حتى يطغى على أي ولاء آخر، فعند المحك إذا أردت أن تعرف الحق فانظر إذا تعارضت أوامر دين الله مع مصلحة الجماعة أو التنظيم فأيُّها يُقدَّم؟ هل تكون الجماعة خادمة للدين ولو على حساب وجودها أو اسمها أم يكون الدين مطية لمصلحة الجماعة المزعومة.
ثالثاً: يخطئ كثيراً من يظنُّ أن جماعته أو فصيله هي الوكيل الحصري والمعتمد للمشروع الإسلامي وأنها وحدها من ستقيم دولة الإسلام وتمكن لدين الله في الأرض, وهذا عين الكبر, بل المشروع مشروع الأمة وليس مشروع فصيل، خاصة في هذه المعركة التي اصطف فيها الرافضي خلف النصيري وصاروا يداً واحدة في مواجهة أمة الإسلام, فلا مناص من اصطفاف السلفي والصوفي والأشعري في هذه الحرب المصيرية كما اصطفت الأمة خلف صلاح الدين الأشعري الصوفي من قبل وكما اصطفت خلف المعتصم المعتزلي في مواجهة الروم، فلا مجال للاعتبارات المذهبية والخلافات الفكرية ـ طالما أنها لا تخرج من دائرة الإسلام ولا تَمسُّ بأصل المشروع في هذا الميدان وتأمَّل معي قول الله تعالى: ﴿ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن الله﴾ فالذين أورثوا الكتاب هم حملة المشروع و"اصطفينا من عبادنا" هم الطائفة المصطفاة كان فيهم الظالم لنفسه والمقتصد, ولم يكونوا كلهم "سابقين بالخيرات".
ولا بأس بأن نعرِّج على مظاهر الكبر عند السلفية الجهادية:
أولاً: حصر الطائفة المنصورة والراية الواضحة بل وأحياناً الفرقة الناجية في جماعتهم, ساعدهم على ذلك كونهم الراعي الحصري والوحيد (تقريباً) لقضية الجهاد في العالم لحقبة لا بأس بها من الزمن, وبما أنه تقرر في حديث الطائفة المنصورة أن من صفاتهم أنهم "يقاتلون" إذن فهذا وصف لازم مختص لنا لا يشاركنا فيه غيرنا.
لكن هذا دفعهم إلى أنه عندما رَفَعَ رايةَ الجهاد غيرُهُم في بعض الساحات كالساحة الشامية مثلاً لم يستطيعوا أن يتقبلوا مشاركتهم إياهم فتكبروا عليهم وازدروهم واعتبروهم درجةً ثانيةً, بل وأخطر من ذلك صاروا يتحكمون في مصير الأمة دون ملاحظتهم ويتأولون في أموالهم وحقوقهم, وعندي أمثلة يندى لها الجبين مما لا يقبله شرع ولا مروءة، وهم في ذلك درجات من حاصر للمفهوم على السلفية الجهادية كتيار, ومنهم من ضيقه أكثر إلى تنظيم من التنظيمات أو جماعة من الجماعات كل بحسب جهله وكبره.
ففي الشام مثلاً لم يكن الجهاديون من بدأ الجهاد على الطاغية بل كانت ثورة شعبية منذ أن كانت سلمية إلى أن صارت مسلحة, ولم يدخل أكثر الجهاديون على الخط إلى بعد أن تحررت كثير من المناطق وشكلت كثير من الألوية وبعدها يأتي أمير إحدى الجماعات الجهادية ويدعو لبيعته كبرى الجماعات التي لا يتجاوز عدد تنظيمه ربع بعضها ولا إنجازاته ربع إنجازاتها, ولا بأس بأن يوشي دعوته تلك بالآيات والأحاديث الدالة على الجماعة ونبذ الفرقة "تحت رايته المباركة طبعاً".
أثرت هذه العقلية كثيراً في اندماج الجهاديين مع مكونات أي ثورة أو مجتمع ومنها الثورة الشامية بل وحتى طالبان التي يدعون زوراً بيعتهم لها مع أن بعض الساحات أبدت تجاوباً منقطع النظير في قبول المشروع الإسلامي بالضوابط التي وضعها الجهاديون له, وأعطتهم فرصة نادرة أن يندمجوا فيها وتكون درعاً لهم من المتربصين وأن يقودوها بفكرهم وكوادرهم إلا أن هذا الكبر والاستعلاء أفقدهم كثيراً من مصداقيتهم, وصارت الناس تنظر إليهم على أنهم نفعيون انتهازيون لا يهمهم إلا مصلحة جماعتهم وحزبهم. وأذكر أن أحد الإخوة القيادات ذكر لي مقتطفات من حوار جمعه مع بعض الجماعات التي عرضوا عليها الدخول معهم في كيان موسع فكان مما سألوهم إياه: هل تعدوننا درجة ثانية؟ هل ستستعملوننا ثم ترمون بنا؟ هل تنظرون إلينا على أننا شريك حقيقي؟!
وهذه مسألة خطيرة جداً لا بد لي من الوقوف عندها وإعطائها حقها من البحث وإن أدت بي إلى الاستطراد ألا وهي:
 ﴿واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تَفَرَّقوا﴾
أوامر الشريعة الإسلامية منها أوامر دائمة ومستمرة وعامة مذ أرسل الله محمداً صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة لا تختص بوقت دون وقت ولا بمكان دون آخر كإقامة الصلاة والاعتصام بحبل الله تعالى والتوحد على طاعته، وهناك أوامرُ عارضة تختص بظروف معينة وأوقات معينة وليست سمةً عامة للشريعة كمقاطعة المبتدع والفاسق وهجرانه فلا ينبغي أن تقدم هذه وأمثالها على الأوامر العامة لتفويت ذلك للمصالح العظيمة الناتجة عنها.
فأمر عظيم من أوامر الشريعة وهو الاعتصام بحبل الله والتوحد في ظل ثوابت الإسلام لا ينبغي أن يعطل بسبب أن بعض من سنتوحد معهم على المنهج لديهم انحرافات سلوكية أو بدع عقدية ـ طالما أنها لا تُخرج من الإسلام ولا تتسبب بتعطيل المشروع, لأن معركتنا مع المشروع المضاد للمشروع الإسلامي هي معركة اصطفاف، اصطف فيها كل من ناهض المشروع الإسلامي من نصيرية ورافضة وإلحاديين؛ إنها معركة إسلام أو لا إسلام, فينبغي أن يصطف أصحاب المشروع الإسلامي صفاً واحداً وعليهم أن يتناسوا الخلافات بينهم طالما اتفقوا على أصل المشروع وهو إقامة دولة إسلامية وعدم تسليمها إلى أصحاب الهوى من أبناء المذاهب الفكرية المنحرفة التي تناقض أصل الإسلام كالديمقراطية والقومية والاشتراكية... 
فبعد الاتفاق على ذلك لا يضر كون من سنتوحد معهم لديهم بدع عقدية أو انحرافات سلوكية.
وهذا مذهب السلف رحمهم الله وما دل عليه فعلهم:
ـ فها هو إمام أهل السنة أحمد -رحمه الله- يفتي بالجهاد مع الخليفة المعتزلي المبتدع المعتصم بالله الذي قال بخلق القرآن وسجن علماء أهل السنة -ومنهم أحمد- وعذبهم على القول بذلك ويدعو له ولجنوده بالنصر ورد على من ترك الجهاد بحجة أن خلفاء بني العباس لديهم انحرافات وأنهم يستأثرون بالمغانم ولا يقسمونها وفق السنة فقال: قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ وَسُئِلَ، عَنْ الرَّجُلِ يَقُولُ: أَنَا لَا أَغْزُو وَيَأْخُذُهُ وَلَدُ الْعَبَّاسِ، إنَّمَا يُوَفَّرُ الْفَيْءُ عَلَيْهِمْ، فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ، هَؤُلَاءِ قَوْمُ سُوءٍ، هَؤُلَاءِ الْقَعَدَةُ، مُثَبِّطُونَ جُهَّالٌ، فَيُقَالُ: أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَعَدُوا كَمَا قَعَدْتُمْ، مَنْ كَانَ يَغْزُو؟ أَلَيْسَ كَانَ قَدْ ذَهَبَ الْإِسْلَامُ؟ مَا كَانَتْ تَصْنَعُ الرُّومُ؟ مع أن أحمد رحمه الله كان يرى بعض مقالات المعتزلة كفراً والعياذ بالله, ولكنه لا يكفر من كان متأولا منهم.  
ـ  وها هم علماء الإسلام الحنابلة الذين هم من أشد الناس على الأشاعرة والصوفية يصطفون خلف صلاح الدين الأيوبي الأشعري في حرب الصليبين, وما هذ إلا من الفقه في الدين ومعرفة معركة المصحف في ذلك الزمن.
وقد حدثني أحد الإخوة المهاجرين أنه لما استدل بمسألة صلاح الدين على أحد الإخوة وسأله لو بعث صلاح الدين اليوم أكنت تجاهد معه؟!! فقال: لا لأن منهجه منحرف!!!
فالكبر عند أبناء هذا التيار إضافة إلى عوامل أخرى كان سبباً رئيسياً في تضييع هذه الفريضة العظيمة، فاتهم أن المشروع الإسلامي ليس مشروع تنظيم أو جماعة أو نخبة بل هو مشروع الأمة كلها لا يتحقق إلا بها برها وفاجرها! نعم وفاجرها! (إن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر) ومن الفوائد في هذا الباب أنه في غزوة الخندق التي نحن أشبه ما نكون بها واقعاً, كل الناس شارك في حفر الخندق المهاجرون والأنصار وحتى المنافقون (يقولون إن بيوتنا عورة...) (إن محمدا يعدنا كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب للغائط) قالوا ذلك أثناء حفرهم للخندق، ثم تعال معي إلى تاريخ دولتنا وخلافتنا التي نعتز بها لترى أنها لم تكن على منهاج النبوة إلى ثلاثين سنة تخللها ما تخللها من سفك للدماء وقتل لخيرة الصحابة والخلفاء واقتتال بين الصحابة. بل وعلى مستوى الاعتقاد والمنهج أيضاً لترى أن أهل السنة والمنهج تنحوا عن قيادة الأمة منذ خلافة الأمين وقادها المعتزلة والصوفية والأشاعرة وووووو إلى يومنا هذا. كل هذا يدلك ألا تحتكر الحق في جماعتك أو تنظيمك أو منهجك الفكري.
أي ناظرٍ إلى حال الخلافتين الأموية والعباسية اللتين نتغنَّى بهما ونتمنى لو عدنا إلى زمنهما سيرى كيف أن الأمة حوت البر والفاجر داخل بنيان دولة الخلافة، وكان كثير من رؤوس الدولة في ذلك الزمان لو رأيناهم لعددناهم فجاراً منحرفين. هذا ابن قدامة المقدسي وهو يتكلم عن أمثلة لعلامات المجروحين في عدالتهم في زمنه فيذكر أن من أمثلة مظاهر الجرح أن يكون الرجل لابساً زي الجند أو الشرطة يعتبر ذلك علامة على جرحه فلا يقبل شهادته؟! فتصور حال الجيش والشرطة في زمانهم، من الفساد والرشا وظلم الناس.
الكبر دفع كثيرين إلى أن تكون مجالسهم افتتاحها بذكر فضائلهم واختتامها بانتقاص غيرهم من الجماعات والتنظيمات والكلام على عيوبهم ومثالبهم وكيف فرُّوا من الغزوة الفلانية وغَلُّوا من أخرى.
أي شيء غير الكبر يدفع فصيلاً جهادياً ادعى أنه خارج لتحكيم الشريعة إلى أن يرفض النزول على حكم الشرع والجلوس لمحكمة شرعية مستقلة بحجة أن خصمه مرتد أو عميل أو أن الحَكَم ليس من "أهل المنهج" قصده طبعاً بأهل المنهج: ((من لم يبايع إمامه المزعوم)), مع أن علياً تقاضى مع يهودي إلى قاضي المسلمين وبعض العلماء ذكر الاتفاق على أنه إذا تحاكم كفار لنا وطلبوا أن نحكم فيهم شرع الله أنه يجب علينا أن نحكم بحكم الله فيهم.
ناهيك عمن اجتمع مع تنظيمه وأعلن دولة الإسلام دون مشاورة غيره وصار يرى نفسه السلطة الشرعية فصار يضرب هذا, ويظلم هذا, ويستولي على مقرات وسلاح هذا, ويفرض المكوس على المصانع وأهل التجارات حتى ثارت عليه -بعد أشهر من إعلان دولته المزعومة- جميع فصائل الشام برها وفاجرها في اتفاق لم ير مثيله في الساحة، واجتماعهم وحده في مواجهته كان  كافياً لجعله يراجع حساباته فما كان منه إلا أن ترك جهاد النصيرية ومضى قدما في قتالهم وضربهم بالمفخخات بعد أن كفَّرهم واتهمهم بالعمالة والردة, وسمعناهم ينادونهم على اللاسلكي "سوف نسبي نساءكم يا صحوات" مما زاد الناس فيه يقيناً وأقنع المتردد منهم بمقاتلته.
أدى الكبر عن أبناء السلفية الجهادية إلى وأد أي محاولة إصلاحية داخل التيار فتحولت إلى صرخة في واد أو نفخة في رماد, بل أدى إلى برمجة التيار بشكل يفتقر افتقاراً كاملاً إلى أي مقوم من مقومات الإصلاح الذاتي ساعد في ذلك العقلية السلفية الحادثة التي سنتكلم عنها إن شاء الله فبدلاً من النظر إلى أخطائنا ومحاولة إصلاحها صار البديل جاهزاً لتبرير أي فشل وعدم التوفيق تماشياً مع السنن الربانية, فالسبب هم الصحوات والمرتدون أو العملاء والمنافقون أو أن هذه هي الحال الطبيعية في هذا الزمان لنا من منطلق (وسيعود غريباً، تكالب الأمم، من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم...) ولن يحلها إلا ظهور المهدي؟!!
الكلام عن الكبر كخلق من أخلاق السلفية الجهادية وتأثيراته على الساحات يطول وأرجو أن يكون فيما أسلفته ما يكفي للاعتبار, ومن عايش الساحة سيخرج بأمثلة كثيرة فما ذكرته للتمثيل لا الحصر.










ثانياً: السلفية كمنهج علمي في تلقي الأحكام
لا بد في كلامنا عن انحرافات الجماعات الجهادية أن نُعرِّج إلى دور السلفية كمنهج علمي في تلقي الأحكام فيها، وبصراحة أعرف أن الموضوع معقد وسيؤدي إلى كثير من اللغط والاستياء الذي أخشى أن يذهب بأصل الموضوع, وسبب ذلك أن المقتنع بما يسمى المنهج السلفي شريحة واسعة جداً من حملة المشروع الإسلامي, إلا أنني مضطرٌ لذلك لأن أي تحليل لتلك الانحرافات دون تناول هذا الموضوع سيكون قاصراً يهتم بالأعراض دون المسببات ولن يفلح في الوصول إلى المقصود إذ أنه يترك مكمن المرض ويعالج الظواهر والأعراض.
وأكرر هنا أنني لست أعني بالسلفية هنا تلك التي دعا إليها ابن تيمية وابن القيم وأمثالهما من كبار علماء الأمة الذين يعرفون لأئمتها حقهم وللعلم والعلماء قدرهم. بل أتكلم عن أولئك الجهلة الذين ظنوا كلام أولئك الأئمة موجهاً إليهم فأقاموا أنفسهم مقام العلماء وعاثوا فساداً في قضايا الدين وضلوا وأضلوا, وأعني بهم على وجه التحديد رموز السلفية العلمية والجهادية على حد سواء ولا أستثني منهم أحداً إلا من رحم ربي وقليل ما هم.
وقبل الدخول في صلب الموضوع لا بأس أن أذكر هذه القصة التي وقعت لأحد إخواننا ممن يحمل عقيدة السلف الصالح, وهو من المؤصلين في طلب العلم مع أحد رموز التيار حيث تكلم صاحبنا عن أهمية دراسة فقه المذاهب والتمسك به فأجابه مستغربا -كونه سلفياً- ألم تقرأ كلام ابن القيم عن التقليد في كتابه إعلام الموقعين فأجابه صاحبي وما تتمة اسم الكتاب إنها "إعلام الموقعين عن رب العالمين" فالرجل كتب كتابه للموقعين عن رب العالمين وهم المفتون أصحاب العلم والاجتهاد، فشو دخلنا أنا وأنت؟!!!
فهم سلفية العصر من كلام ابن تيمية وابن القيم أن عليهم نبذ فقه المذاهب المتبوعة واستنباط جميع الأحكام من مصادرها الشرعية وأدلتها مباشرةً, طبعاً هم لم يلزموا أنفسهم بتعلم أصول الاستدلال والاستنباط أو علوم الآلة كأصول الفقه واللغة العربية والتفسير والقراءات ووو بل اكتفوا بالنظر إلى أدلة المسألة الشائعة مع ظاهرية شديدة وحصر الدليل بالأحاديث والآيات فقط مع دعاوى عريضة هم أبعد الناس عن حقيقتها وترى أصغرهم الذي ترك حياة الجاهلية والتزم قبل أسابيع فقط يقول لك "نحن أمة الدليل" "أنا أتبع الراجح" ويطلب منك الدليل التفصيلي لكل مسألة فكان حالهم كما قال الله عز وجل ﴿ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم ... فما رعوها حق رعايتها﴾. فإن حقيقة دعواهم هي الاجتهاد المطلق في مسائل الدين وهم ليسوا أهلاً له, فإن له شروطاً ذكرها العلماء أصحاب الاختصاص كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى: لا يحل لأحد أن يفتي في دين الله إلا رجلاً عارفاً بناسخ القرآن ومنسوخه، ومحكمه ومتشابهه، وتأويله وتنزيله، ومكيه ومدنيه، وما أريد به، بصيراً بحديث نبي الله صلى الله عليه وسلم، وبالناسخ والمنسوخ، ويعرف من الحديث مثل ما عرف من القرآن، بصيراً باللغة، بصيراً بالشعر وما يحتاج إليه للسنة والقرآن، ويستعمل هذا مع الإنصاف، ويكون بعد هذا مشرفاً على اختلاف أهل الأمصار، وتكون له قريحة بعد هذا، فإن كان هكذا، فله أن يفتي في الحلال والحرام، وإلا فلا.
وقال الإمام أحمد: ينبغي للرجل إذا حمل نفسه على الفتيا أن يكون عالماً بوجوه القرآن، عالماً بالأسانيد الصحيحة، عالماً بالسنن، وإنما جاء خلاف من خالف لقلة معرفتهم بما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، وقلة معرفتهم بصحيحها من سقيمها، وقال في رواية حنبل: ينبغي لمن أفتى أن يكون عالماً بقول من تقدم، وإلا فلا يفتي، وسئل: إذا حفظ الرجل مائة ألف حديث يكون فقيها؟ قال: لا، قال: فمائتي ألف؟ قال: لا، قال: فثلاثمائة ألف؟ قال: لا، قال: فأربعمائة ألف؟ قال بيده هكذا.
إذا علمت هذا فإني قد رأيت بأم عيني أحد رؤوس هؤلاء وهو يُعَلِّم أحد من اهتدى حديثا وترك الجاهلية كيفية الصلاة والشاب يسأله: سمعت أن هناك حنفية وشافعية فكيف يصلي؟, فأجابه: لا هذا ولا ذاك, بل عليك باتباع الدليل تنظر إلى صحيح البخاري كيف صلى النبي صلى الله عليه وسلم فتصلي مثله. طبعاً أصحاب هذه الدعوى لم يلتزموا بمضمونها فتراهم لا يعرفون حتى الدليل الإجمالي لما يفعلونه من العبادات والمعاملات لأن القضية طالت والمسائل متشعبة وأهل الخبرة يعلمون أن معظم الفروع لا دليل -بالمقياس الظاهري عند هؤلاء- عليها، وإنما القضية أن السلفية صارت مذهباً خامساً متبوعاً ولكنه مليء بالشذوذات الفقهية والجهالات الواضحة فترى أكثرهم يرفع يده في الصلاة لأن السلفية يرفعون ويحرك أصبعه في التشهد لأنهم يحركون وهكذا.
وفي الحقيقة فإني تأملت كل علماء الأمة المتبوعين بعد عصر المذاهب فوجدتهم كلهم إلا الشوكاني ينسبون أنفسهم لمذهب من المذاهب المتبوعة حتى دعاة "السلفية" منهم فابن تيمية حنبلي والطحاوي حنفي والنووي شافعي والقاضي عياض مالكي, ولا يأنف أحد منهم أن ينتسب للمذهب ولو كان ككثير من هؤلاء الأعلام يخالف في اختياراته معتمد المذهب الذي ينتسب إليه أحياناً أما ربعنا فيرى عاراً وبدعةً أن تنسب نفسك ولو مجرد نسبة لمذهب, ويراها منقصةً ومسبةً وانحرافاً, ودليل ذلك أنك لا ترى أحدا من رموزهم منتسبا لمذهب بل "السلفي الأثري".
هذا أول الانحراف ثم إعراض كامل عن تعلم أصول الفقه واللغة العربية وعلوم الآلة التي لا يصح النظر والاستدلال إلا بها, وجميع رموز هذا التيار هي أمية في هذه العلوم، فإن كان الألباني وهو يعد شروط الاجتهاد ذكر أنه يكفي لتعلم أصول الفقه قراءة كتاب علم أصول الفقه لعبد الوهاب خلاف وللنحو الشذور فلك أن تتصور مدى الجهل والسطحية عند القوم.
وليس كلامي هذا دعوة للإعراض عن فقه الدليل والتمسك بالتقليد الأعمى المذموم, بل أقول أن الواجب سؤال أهل الذكر فمن تعلَّم العلوم التي تؤهله للنظر والاستدلال فلا حرج عليه, وقليلٌ ما هم, أما أن تؤخذ مسائل الدين هزواً بهذه السطحية والبساطة, ويؤخذ الدين من كتب الشذوذ كفقه السنة وسبل السلام وأمثالهما ويدعى أن هذا هو فقه الدليل والراجح, فلا.
أذكر مرة أنني كنت أقرأ مقالة لأحد أهم منظري التيار وأعتذر عن ذكر اسمه يذكر أنه ذكر لشيخه وأقره -وشيخه أهم منه عند القوم- أنه لا يجوز إطلاق لفظ الزبانية على أعوان الطواغيت لأنه اسم لملائكة كرام, مع أن أدنى عارف باللغة إذا رجع لأدنى معجم سيرى أن لفظ الزبانية ليس اسم علم كجبريل مثلاً بل مأخوذ من الزبن وهو الدفع وإطلاقه على الشُّرَط والذين يدفعون الناس معروف مشتهر وذكره حسان بن ثابت في شعره؟؟؟؟!!! وهذا مثالٌ بسيطٌ جداً, ولو ذهبت أتتبع شذوذات القوم وجهالاتهم لجمعت من ذلك مجلدات ومجلدات, ويكفيك مطالعة أمهات كتبهم كالجامع لعبد القادر بن عبد العزيز لترى ما فيه من الطوام والغلو الذي رآه قوم من علمائهم فطفقوا يردون عليه ويصوبون له، وهذا الشذوذ تراه أيضاً على الصعيد السلوكي ومن أبسط العبادات إلى الأمور الفكرية, فمثلاً الجماعة دوماً مسافرون يقصرون ويجمعون الصلوات ولا يصلون جمعةً ولا جماعةً ولا نافلةً ولا راتبةً, وقد يبقى أحدهم في المكان نفسه شهوراً وسنين, يستوطن ويتزوج ويؤمه الناس من أقاصي الأرض وهو عند نفسه مسافر لأنه بعيد عن قريته التي خرج منها منذ عشرات السنين, وكنا في السجن نرى بعض من حكموا بالسجن المؤبد وهو يقصر ويجمع؟ وتتراكم الجهالات حتى إن عدداً لا بأس به من أتباع التنظيمات الآن عنده القصر والجمع مرتبط بالجهاد كعلة مستقلة كالسفر فتراه يقصر ويجمع وهو في قريته وبيته لأنه مجاهد فتأمل!
وأنا أعلم أن مسألة التمذهب واتباع الدليل مسألة كتب فيها كثير من الكتب والرسائل, وانقسم الناس فرق ومذاهب, ولن أستطيع استيعاب المسالة بالنقاش في هذه العجالة وليس هنا مكانها لكنني أرى التنبيه ضرورياً إلى أن العلماء الذي ذموا التقليد ورفعوا راية اتباع الدليل -أعني المؤصلين منهم- لم يكونوا يقصدون أخذ مسائل الدين بهذه البساطة وفسح المجال أمام الجهلة والسذج حتى يفسدوا في مسائل الفتيا إفساداً يعادل العبث بآيات الله واتخاذها هزواً كله تحت اسم السلفية والتمسك بالدليل.
هذا الشذوذ في التعامل مع الدين أدى إلى ظواهر خطيرة جداً كانت سببا في الانحراف منها:
ـ غياب المرجعيات التي يرجع إليها للاستفتاء فصحابة النبي صلى الله عليه وسلم كانوا ألوفاً مؤلفةً ومع ذلك لم يكن يفتي منهم إلا عدد قليل جداً, يدل هذا على أنَّ الفقه واستنباط الأحكام من النصوص ليس شيئاً يحسنه كل أحد, هؤلاء لا يعتبرون بقول إلا ما يظنونه "دليلاً" والمرجعيات التي نصبوها زوراً وبهتاناً للإفتاء هم جهلة عوام بكل ما تعنيه الكلمة من معنى فكانوا مصداقاً لحديث النبي (اتخذ الناس رؤوسا جهالاً, فسئلوا فأفتوا بغير علم, فضلوا وأضلوا).
ـ دعوى أن هذا الرأي هو الراجح، أو فقه الدليل، أو فقه السنة، أو صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم كأنك تراها، هي دعوى عريضة ألغت فقه الخلاف تماماً, وصار صاحبها يدعي أن هذا هو دين الله عز وجل, وهذا ليس بصحيح. طبعاً ينبغي علينا أن نفرق بين مسألة كون الحق واحداً لا يتعدد وبين ادعاء إدراكه بعينه في المسائل الخلافية، ومن هذ القبيل قول بعضهم: نحن لا نكفر إلا من كفره الله ورسوله ـ ينفي عن نفسه الغلو والتكفير بالعموم ـ وما أدراك أن الله ورسوله كفر فلاناً مع ملاحظة أن حكم تكفير المعين حكم اجتهادي قد يخطئ صاحبه ويصيب وهناك من المكفرات ما اختُلِفَ في كونه مكفراً كترك الصلاة مثلاً, فكيف لك أن تدعي أن فلاناً من الناس الذي كفرته كفره الله ورسوله! هذا من التألي على الدين فإنه ينبغي للإنسان أن يقول هذا فهمي للدليل, ويذكرنا بهذا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادوك أَنْ تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللَّهِ فَلَا تُنْزِلُوهُمْ، وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لَا تَدْرِي أَتُصِيبُ حُكْمَ اللَّهِ فِيهِمْ أَمْ لا.
ـ عدم إدراك وضع المسألة ومدى الخلاف فيها وحكم المخالف مما أفسح للهوى والمؤثرات الجانبية أن يكون لها تأثير في الحكم الشرعي فترى كثيراً من الأبحاث تنطبق من مبدأ اعتقد فبحث! لو اطلعت مثلاً على رسالة حكم الجاسوس لأبي بصير دون أن يكون لديك خلفية سابقة عن الموضوع لظننت أن تكفير الجاسوس هو قول جمهور الفقهاء وأن الخلاف فيه ضعيف والقضية محسومة, بينما في الحقيقة أن جمهور الفقهاء ومنهم الأربعة وغيرهم متفقون على عدم تكفير الجاسوس المسلم وأن المكفرين هم بعض علماء المالكية، وأنا لا أعترض هنا على الاختيار الفقهي للشيخ, وقد يكون له ما يبرره خصوصاً في هذا الزمان حيث عظم ضرر الجاسوس وازداد شره وتمايزت الصفوف في كثير من الساحات، لكني أعترض على طريقة تصويره للموضوع وعدم عرض المسألة واختلاف العلماء فيها بشكل صحيح.
ـ الظاهرية الشديدة في التعامل مع مسائل الدين وحصر مفهوم الدليل في الحديث فقط, وأذكر مرة أنني كنت أصلي بشباب فقنتُّ في الصلاة ودعوت على الظالمين أن يرينا الله بهم سيف انتقامه فقال لي أحدهم بعد الصلاة أنك أثبتت لله عز وجل صفة السيف وهذه لم ترد في الكتاب والسنة أي أنها بدعة!!!!!.
ـ الغلو في التعامل مع مسائل الدين السلوكية والفكرية منها بتضخيم الصغير وتصغير الكبير, فتراه قد يترك القتال من مجموعة فيها مدخنون لأن التدخين حرام وكأنه من الكبائر، وإذا اجتمع إلى هذا الغلوِّ الجهلُ المؤصَّلُ مع اتباع الهوى وضعف التربية الربانية الذي سنتكلم عنه, فانتظر الطوام من الغلو في مسائل الدماء والأعراض.
ـ التعامل بشكل منحرف أدى لمصائب وكوارث في مسائل الكفر والإيمان والتكفير وغيرها مما فرخ لدينا أصنافا من الخوارج الحقيقيين الذي حدثنا عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، يكفرون جماهير المسلمين ويستبيحون الحرمات والله المستعان، ومشكلة منظري التيار ومن تصدى للإصلاح منهم أنهم ولانطلاقهم من نفس الأرضية الفكرية لا يزيدون النار إلا اشتعالاً، بل ويؤصلون ويؤطرون لها, فمثلاً تراهم يعالجون قضية الغلو في التكفير بتأليف الكتب والمصنفات التي تتحدث عن موانع التكفير وضوابطها وشروطها وأخطاء التكفير، يرمي أحدهم القالةالتي يكون نتيجة ظاهرها تكفير عموم المسلمين كقولهم (من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فهو كافر، لا عذر بالجهل في مسائل التوحيد وأصول الدين) وتسير بها الركبان ويتناولها الجهلة مرضى النفوس ممن حقد على مجتمعه وغيره ويصدرون الأحكام الجاهزة ويلغون في دماء المسلمين المعصومين ثم تبدأ من المنظرين حملة التأصيلات والتقعيدات وقص الأطراف والتشذيب (فهذا يفرق بين المرشح والمنتخِب، وبين أهل القرى وأهل المدن، جهل في جهل) بدل أن يحذروا أولئك الجهلة من الدخول في تكفير المعين أصلاً لأن هذا عمل أهل العلم وأغلب القوم عوام لا يحسنون قراءة الفاتحة كما أنزلت على محمد بن عبد الله فتراهم يسكتون في مسائل المواريث والعقود ويتكلمون في تكفير المعين وشروطه وموانعه مع أنه أخطر, وما ذلك إلا لأنهم يرونه من العقيدة التي لا يصح إيمان المرء إلا بها فيرون أن التكفير أحد أقسام التوحيد التي لا يصح إلا بها ويعتبرونه من الكفر بالطاغوت الذي لا يصح الإيمان إلا به، كما قال أحد "شرعييهم" على المنبر أن الدين ولاء وبراء و"تكفير".
فمثلاً ما يذكرونه في قواعد التكفير (من لم يكفر الكافر أو شك في كفره فقد كفر) هو مثال للتخبط والجهل في هذا الباب فظاهر القاعدة تكفير من لم يكفر الكافر مع أن بعض المكفرات تنازع العلماء في كونها مكفرة كترك الصلاة مثلاً فهل يلزم تكفير من لم يكفر تارك الصلاة وهم جمهور العلماء!!؟ جاء المرقعون أصحاب التأصيل ليحلوا المشكلة وضعوا قيد الكفر المجمع عليه أو الكفر القطعي! وهذا الكلام يجعل من القاعدة بأقل تقدير لغواً لأن إنكار أي شيء من قطعيات الدين كفر مهما كان هذا القطعي سواء كان حرفا من حروف القرآن أو تكفيرا لكافر مما يجعل عدم تكفير الكافر وصفاً غير مؤثر في المسألة ووضع الوصف غير المؤثر في الضابط لغو عند أهل الأصول وأيضا يغني عنه قاعدة من أنكر قطعيا من الدين فقد كفر فبينها وبين تلك القاعدة بالضابط الذي ذكروا عموم وخصوص وجهي, فصار أصل القاعدة لغواً والقيد هو الأصل ويغني عنه قاعدة أخرى!!
ـ وصول عدد من الأشخاص الذين يعدون أمِّيِّين وعوام, وإن شئت فقل جهلة في علوم أصول الدين إلى منبر التنظير والتحدث باسم التيار, وصاروا هم المرجعية عند الشباب, وسرُّ ذلك أن معظم المؤصلين في علوم الآلة وللأسف كان من الساكتين أو قل المداهنين للطواغيت في مسائل الحاكمية وحكم المبدل للشريعة ومن تولى أعداء الله من الطواغيت العرب وكذلك حكم الجهاد, وإن شئت فقل عموماً مسائل ما يسمى بـ"الإسلام السياسي" فلما سكت هؤلاء وصدع أولئك بالحق في تلكم المسائل وتحملوا –مأجورين- الأذى والسجن وظلم الطواغيت إياهم, صاروا مرجعيات الشباب في مسائل الدين وأطلق الشباب عليهم مصطلح "علماء الجهاد، علماء الثغور", وأسقطوا ما عداهم من المرجعيات والعلماء مع أنهم لا يمتلكون الأهلية العلمية للفتوى في مسائل الدين, ولك أن ترى مدى الفوضى والمخالفات التي حصلت على الساحة جراء ذلك, فمن مفتٍ للخوارج في الجزائر بقتل الذرية والنساء, وللاجئين إلى ديار الغرب بالسرقة والنهب باسم الاغتنام, ناهيك عن فتاوى التكفير العمومية لكل من انتخب أو حكم بخلاف الشريعة أياً كانت الواقعة وتوزع الشباب بين آراء أولئك فمقل ومستكثر حتى وصلوا إلى حالة هي أشبه ما تكون بحديث النبي (اتخذ الناس رؤوساً جهالاً, فسئلوا فأفتوا بغير علمٍ, فَضَلُّوا وأضَلُّوا).
وليت شعري, ما هو الضابط لعلماء الجهاد, ومن المسؤول عن اختيارهم وتصنيفهم, ولماذا لا يعد علماء الطالبان منهم مع أنهم أهل الجهاد ومعدنه ألِأنهم أحناف؟! وهناك علماء كثر داعمون للجهاد الشامي وغيره لا يعتد بهم، حتى اقتصر الناس على ست أو سبع صاروا هم المرجع والمستفتى؟!
ـ مشكلة كتابات أئمة الدعوة النجدية المليئة بالإطلاقات غير المنضبطة التي فتحت الباب على مصراعيه لأهل الغلو ينتقون منها ما يشاؤون لتكفير الناس واستحلال حرماتهم، وأئمة الدعوة النجدية رحمهم الله كان لهم جهد مشكور في محاربة البدع ونشر عقيدة التوحيد الصافية, إلا أنهم ولبعد أكثرهم عن التأصيل المنهجي وقعوا بإطلاقات وتعميمات في مسائل الكفر والإيمان كان أثرها كارثياً على الشباب الذين تبنوا الفكر النجدي كما هو, وقد اعترف منظروا التيار الجهادي كالمقدسي بهذا كاملاً وحذروا منه في كتاباتهم دون جدوى بعد أن تشبَّع الشباب بالفكر وخاضوا فيه وللآن تبرز مشكلة غلاة النجديين في الساحات الجهادية كأحد أهم عناصر تجذر الانحراف والغلو في التيار سيما وأن أكثرهم يكون قاضياً أو مفتياً في التنظيمات الجهادية لأنه من أهل "المنهج".


ثالثاً: عدم الرفق بالمخالف
هذه هي النتيجة الطبيعية لتزاوج الجهل المركب الذي هو نتاج المدرسة السلفية مع الكبر, فقد قرر علماؤنا أنه كلما زاد علم الرجل زاد رفقه بالمخالفين, وسرُّ ذلك أن فلسفة السلفية مبنية على اتباع الراجح واتباع فقه السنة ونبذ أقوال الرجال, هذا يقرر عند منتسبيها أن كل ما يتبعونه هو "الراجح" فتلقائياً صار أصحاب الرأي الآخر هم المخطئون الضالون، بينما المتبحر بالعلم أو تابع المذهب كلاهما على حد سواء الأول بالنظر والتمحيص والدراسة والثاني بالتقليد والتسليم لأهل الذكر يعلم أن كثيراً من المسائل هو مما لا يمكن الجزم فيه بأن الحق كذا والراجح كذا وإلا كان ذلك إسفافا بالعلماء الكبار الذين اختلفوا طالما أن المسألة بسيطة والراجح بين ظاهر فيها؛ فمن هذا المنطلق شبابنا يقولون نحن نتبع القول الراجح إذاً فمخالفنا على خطأ وضلال!؟
هذا من ناحية, ومن ناحية أخرى, يأتي الجهل في مسائل الدين ويدلي بدلوه في الموضوع ومضمونها أن معرفة مسائل الاتفاق والخلاف ومعرفة ما يسوغ الخلاف فيه وما لا يسوغ ومعرفة وضع المسألة في الدين وهل يكون المخالف مجتهداً أو مجتهداً مخطئاً أو متأولاً بـتأويل سائغ أو مبتدعاً أو... يحتاج علماً جماً حتى إن كثيراً من العلماء أدخلوا العلم بالاتفاق واختلاف الناس في شروط الاجتهاد! فعن سعيد بن أبي عروبة قال: "من لم يسمع الاختلاف فلا تعده عالماً" وأخرج عن قبيصة بن عقبة قال: "لا يفلح من لا يعرف الاختلاف" وأخرج عن ابن القاسم قال: "سئل مالك لمن تجوز الفتيا؟ قال: لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه. قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن، وحديث النبي صلى الله عليه وسلم، فذلك يفتي. هذا كلام أهل العلم.
فكيف إن علمت أن كثيراً من الشباب لا يعرفون إن كانت كثير من المسائل تدخل في باب العقيدة أو الفقه وهل هي من الأصول أو الفروع فتراه يشترط عليك أن تكفر فلاناً أو علاناً من الطواغيت لا بل وتجهر بتكفيرهم حتى يصح إسلامهم، ومن هذا لما اشترط خوارج الدولة الإسلامية على مخالفيها أن يجهروا بتكفير قطر وتركيا حتى ترضى أن تتحاكم معهم لشرع الله؟؟ والمضحك المبكي هو سؤال بعض الفصائل المحسوبة على العوام لها لماذا اشترطت بالذات الدول التي تساعد اللاجئين السوريين وتدعم الثورة حتى نعلن عداوتنا لها ولم تشترط الجزائر مثلاً؟!
بعد ذلك يأتيك الكبر والحزبية ليجتمع إلى ما ذكرنا فترى النتيجة واسمع كلاماً لرموز من التيار وقاداته تخبرك أن الإخوان شر من العلمانيين؟ وفي العراق "قتل عوام الشيعة أولى من الأمريكان" وفي الشام "قتال الصحوات أولى من قتال النصيرية" لتعرف مدى جهلهم وإجرامهم مع المخالفين، وقد طبقوا هذا عملياً بتركهم للنصيرية والأمريكان علناً جهاراً نهاراً، واستهدافهم للمسلمين.













رابعاً: إسقاط جميع المرجعيات إلا "مشايخ الجهاد" واتخاذ رؤوس جهال أصحاب هوى
نتيجة طبيعية للكبر والجهل المركب الذين تحدثنا عنهما سقوط جميع المرجعيات العلمية عند القوم واتخاذهم مرجعيات ممن يوافق هواهم ولو مع ضعف الأهلية العلمية, وهذه من أخطر الظواهر التي تهدد المجتمعات والأمم فضلاً عن الجماعات، كما سألت امرأةٌ أبا بكر رضي الله تعالى عنه فَقَالَتْ: " مَا بَقَاؤُنَا عَلَى هَذَا الْأَمْرِ الصَّالِحِ الَّذِي جَاءَ اللهُ بِهِ بَعْدَ الْجَاهِلِيَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ " , قَالَ: فَقَالَ: " بَقَاؤُكُمْ عَلَيْهِ مَا اسْتَقَامَتْ أَئِمَّتُكُمْ " , قَالَتْ: " وَمَا الْأَئِمَّةُ؟ " , قَالَ: " أَمَا كَانَ لِقَوْمِكِ رُءُوسٌ وَأَشْرَافٌ يَأْمُرُونَهُمْ وَيُطِيعُونَهُمْ؟ " , قَالَتْ: " بَلَى " , قَالَ: " فَهُمْ أَمْثَالُ أُولَئِكَ يَكُونُونَ عَلَى النَّاسِ " رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الصَّحِيحِ.  فسقوط المرجعية الحكيمة عند أي قوم منذر بهلاكهم وتشرذمهم, ولا ينقضي عجبك ولا أسفك من بعض مجالس الشورى عند تلك التنظيمات التي تتخذ فيها قرارات تمس مصير أمة وأنت لا ترى فيه واحداً من ذوي الشيبة وترى فتياناً لعل أكبرهم لا يزيد عمره على الثلاثين هم مرجع الشباب ومن يدبر أمورهم!
ما إن يبدأ أحد أهل العلم في انتقاد تصرف للجهاديين حتى تبدأ من سفهائهم حملة شعواء عليه بأنه القاعد عن الجهاد المداهن للطواغيت ويتكلم على أهل التوحيد الذين فارقوا الأوطان وتبدأ اللطمية. و(لا يفتي قاعد لمجاهد).
لقد تجرأ القوم في الكلام على أهل العلم وسبِّهم, فصار حتى من كان يعد مرجعاً فيهم إذا خالف هواهم أو انتقدهم, تجرأ عليه سفهاؤهم وبدأوا بشتمه حتى في أناشيدهم ومنه قولهم:
ولا فكر الحوالي الغث كلا                               ولا أنصاره المستسلمينا
صار فكر الشيخ الحوالي غثاً, وقد كان سابقاً من مشايخهم ومرجعياتهم معظماً فيهم لأنه خالفهم في مسألة الهجوم على برج التجارة واعتبرها خطأً، ومثله كثير وهذا ما جنته أيديهم بصراحة! فقبل ذلك جرأ كثير منهم هؤلاء السفهاء على أبي حنيفة والشافعي والغزالي وغيرهم من الأعلام بحجة السلفية واتباع الدليل, وهاهم يجنون اليوم ما زرعوه بالأمس، بينما لا ترى في كتابات الأعلام كابن تيمية رحمه الله وتلميذه إلا كل الاحترام والأدب مع الأئمة الأعلام ودونك فتاوى شيخ الإسلام التي بلغت 40 مجلداً هل تجد فيها حرفاً ينتقص من أئمة المذاهب المتبوعة وأعلامها حتى إنه عندما يأتي إلى مواطن خلافه معهم ينبه على فضلهم وجلالتهم ويذكر أن الخلاف في حقيقته لفظي ككلامه عن مرجئة الفقهاء في باب الإيمان فتأمل؟
والأمر أخطر في الناحية العملية فقد صارت الحركة الجهادية عمياء تتخبط بلا مرجع شرعي يقودها بكتاب الله وسنة رسوله, وصار الشرعيون فيها كعلماء السلاطين لا وظيفة لهم إلا حشد الدلائل والمسوغات لجرائم تنظيماتهم وقد أدرك رؤساء التنظيمات حاجتهم للشرعيين فصار كثير منهم ينتقي صغار السن حدثاء الأسنان كشرعيين لتنظيماتهم, ويكون أغلبهم من المنبهرين بالإصدارات, ولا يستطيع مخالفة الأمراء ولا يتصور خطأهم أساساً فيصير ككاتب العدل مهمة تصديق أفعالهم وإيجاد المسوغات "الشرعية" لها.
اجتمعنا يوماً مع "شرعيي" فصيل جهادي نسألهم عن تكفيرهم لفصيل بالجملة وقتالهم إياهم فذكر لنا من الهراء الذي لا يصلح لتفسيقهم حتى، فذكَّرَهم أحد الإخوة أنهم قاتلوا معهم قبل شهرين من المشكلة في صفٍ واحدٍ ضد النصيريين. فقال فوراً "يجوز الاستعانة بالكافر للضرورة" بينما العلة في تكفيره لهم أنهم تلقوا دعماً من جهة يكفرها!!!! ولدَيَّ من الأمثلة كثير كثير يثبت أن كثيراً من "الشرعيين" عند كثير من الفصائل الجهادية ما هم إلا علماء سلطان محامون دفاعاً عن تنظيماتهم وراعون لمصالحها وحقوقها.
وإن شئت أدلة حسية على ما أقول فراجع رسائل "مد الأيادي لبيعة البغدادي" و"إعلام الأنام بميلاد دولة الإسلام"
اقرأها بعد أن أخبرك بالسبب الحقيقي لإعلان الدولة الذي قام به جماعة البغدادي في الشام وهو في حقيقته خلاف شخصي بين البغدادي ومسؤول جبهة النصرة, ورغبة النصرة بالاستقلال عنهم والتبعية للظواهري مباشرةً وتمت المراسلات فحتَّى يستطيع البغدادي قطع الطريق والإمساك بزمام الأمور والسيطرة على التنظيم اجتمع مع اثنين من المقربين له وقرروا إعلان الدولة؟!! دولة إسلامية تعلن بهذا الشكل لحل مشكلة صراع عن الإمارة دون مشاورة أهل البلد والنظر لمصالح المسلمين! فتأمل حفظك الله مدى استخفاف هؤلاء بدين الله وبمصير الأمة ثم انظر للأبحاث الشرعية التي ذكرتها لك كيف تبرر بزخم هذه الجريمة وتحشد الأدلة لتسويغها حتى تعلم ما هو دور "طلبة العلم" في هذه الجماعات؟!!

















خامساً: الجهل المركب
أقصد به الجهل في التعامل مع الآيات والأحاديث وطريقة فهمها وإنزالها على الواقع, ويتجلى ذلك إلى النقاط الآتية:
ـ جاء  أبناء التيار الجهادي إلى أحاديث الطائفة المنصورة والفرقة الناجية واعتبروها منهجاً ونبراساً لهم وصاروا يستدلون بها على واقعهم, ويجدر هنا التنبيه إلى أن من العلماء كالشاطبي رحمه الله ذكر أن الخوارج هم أكثر الناس استدلالاً بأحاديث الطائفة المنصورة!! الغريب في الأمور أنهم أساؤوا فهم سياقها واعتبروا العلامات التي فيها شروطاً وموجبات وخلطوا بين الأمر الشرعي والأمر الكوني. وبيان الأمر أن ما يرد في كلام الشارع أحياناً يكون من باب العلامات وأحياناً يكون من باب الموجبات, فوضع هذي مكان تلك يجر للخطأ, فإخبار الشارع للنبي صلى الله عليه وسلم أن قومه سيخرجونه مثلاً, هذا أمر قدري لكنه شرعاً غير مطلوب, بل إن عليه أن يعمل على عكسه وهو البقاء في مكة ودعوة أهلها فلا ينبغي أن يخرج منها تحقيقاً للخبر!
ونوضح القضية فنقول إن إخبار الأحاديث (أن الدين بدأ غريباً وسيعود) وحديث (لا يضرهم من خذلهم) (من يعصيهم أكثر ممن يطيعهم) وأمثالها يدل على علامات وتسلية من الله للمؤمنين وليست شروطاً وموجبات ينبغي العمل على تحقيقها بل هي في الحقيقة أمور ينبغي أن نعمل على ألا تتحقق ونكافحها ما وجدنا لذلك سبيلاً، فغربة الدين وخذلان الناس له أمر مذموم ينبغي التخلص منه والوصول إلى حالة (ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً) إذن فتعامل أبناء التيار مع المسألة على أساس نحن قلة وغرباء ومستضعفون إذن نحن على الحق، مع إساءة الظن بمن كان كثيراً ومحبوباً من الناس لأن وضعه مخالف للحديث خلل واضح نتيجة لقلة الفقه والخلط بين الأمر الشرعي والقدري. وحتى تتأكد من ذلك انظر إلى مقدار الرسائل التي تتحدث عن الطائفة المنصورة وصفاتها وخصائصها!
عندما يفهم قوم أن مقتضى الولاء والبراء أن يجهر الموحد بتكفير كل من لم يحكم بما أنزل الله وأن يعلن عداوته وبغضه له على الملأ وتخوين وتكفير كل من يلتقي به أو يجلس معه أو يتعامل معه بأي نوع من المعاملة فهذا جهل ما بعده جهل, ولا نرى حاجة للرد عليه لتهافته، فضلاً عمن يُخوِّن ويُكفِّر كل من سافر عبر المعابر الدولية أو خرج على بعض الشاشات الفضائية، أو من مدحه بعض المشايخ أو القنوات التلفزيونية. ووالله إني أستحي من قول هذا أو ذكر أن عقولاً كهذه موجودة ولها وزنها في التيار الجهادي, ولكن ينبغي أن يعرف الناس كيف صار هذا التيار حاضنةً للغلاة والخوارج في كل الساحات.
ـ عندما رمى مشايخ السلطان أتباع السلفية الجهادية بأنهم خوارج، ردُّوا عليهم حمايةً لأنفسهم بأن الخوارج هم الذين يكَفِّرون بالكبيرة، ويُكَفِّرون الصحابة؛ قالوا ذلك رداً وتبرئةً لأنفسهم ولكنهم بذلك سوغوا لمن خرج منهم من الخوارج واستحلَّ دماء المسلمين أنهم ليسوا خوارج، مع أن الخوارج الأول الذين خرجوا على علي رضي الله عنه وفيهم جاءت أحاديث المصطفى لم يكونوا يكفرون بالكبيرة وذكر العلماء كالشهرستاني أن ذلك ليس وصفاً لازماً لجميعهم بل قال "إن الغلاة منهم يكفرون بالكبيرة" وهذا الشرط بالذات لم يرد في الأحاديث وكذلك ابن تيمية ذكر أن من صفاتهم التكفير بما ليس بمكفر ولم يقيِّد بالكبيرة، وذكرت الأحاديث صفاتهم أنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان!
ـ من أمثلة الجهل المركب توسعهم وغلوهم في مسائل البيعة واستدلالهم بحديث ((من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية)) على وجوب البيعات لتنظيمهم, ولقد رأينا كيف كان "شرعيوهم" يستدلون بهذا الحديث ليقنعوا العوام والبسطاء بوجوب البيعة لهم، مع أن من له أدنى معرفة بالعلم يعلم أن المقصود بالبيعة في الحديث بيعة إمام العامة كما صرح بذلك أحمد وغيره من العلماء عند الكلام على الحديث، وبعضهم كان يعلم ذلك لكنه كان يدلس.






سادساً: الحزبية المقيتة
يدخر أبناء التيار الجهادي كل الرحمة المتبقية في قلوبهم ويحملون جميع أحاديث الرفق واللين والرحمة و﴿أذلة على المؤمنين﴾ و(لينوا بأيدي إخوانكم) و(الحب في الله) و(تبسمك في وجه أخيك صدقة) و﴿وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين﴾ لأبناء تنظيمهم وجماعتهم ظانين أنهم يطبقون الآيات والأحاديث بهذا الشكل, ويسمّون بعضهم بعضاً "الإخوة" قاصرين الاسم على جماعتهم, فيسأل أحدهم عن فلان هل هو أخ؟ فيجيبه الآخر نعم أو لا, ومن الحوادث المضحكة أننا كنا يوماً نجتاز على أحد حواجز هؤلاء فظنَّنَا الرجل من جماعته, وسألنا هل أنتم من الإخوة فأجابه أخ كان معي لا بل نحن من الأخوات! ويدخل مسألة التعصب الحزبي هذه بعض التأويلات الشرعية أننا أصحاب المنهج والراية الواضحة بشكل فيه غلو وجهل مما يدفع صاحبه إلى أن يكون ولاؤه لجماعته ويقدمه أحياناً على ولائه لدين الله عز وجل متأولاً مصلحة الجماعة وما شابه، وقد يستحل الكذب أو الغلول من الغنيمة أو خيانة العهد إن كان لمصلحة جماعته.
ومسألة الغلو في الراية من المسائل القديمة على الساحة التي وقع فيها كثير ممن ينتسبون للمنهج حتى ألَّف بعض الغلاة كتاباً يدعي فيه أن طالبان ممن أخلَّ بأصل الدين وعليه فلا يجوز القتال تحت رايتها ورد عليه آخرون، وبالعموم فالجماعة يعتبرون رايتهم هي الراية الوحيدة الواضحة وغيرهم إما رايةً عميةً أو رايةً فيها دخن ولا يجوز القتال تحتها، وكذلك تضخيم مفهوم البيعة وتشبيهها ببيعة إمام العامة.






سابعاً: عدم قبول النصيحة
﴿ولكن لا تحبون الناصحين﴾
النصيحة في الدين من أهم عوامل الإصلاح التي تقوم مسيرة الإنسان في مسيره إلى الله وقد كان الأنبياء يبلغون أقوامهم ﴿إني لكم ناصحٌ أمينٌ﴾ وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الدين النصيحة كما في الصحيح (الدين النصيحة) وقد بايع جريراً على النصح لكل مسلم.
عدم قبول النصيحة أحد أسباب هلاك الأمم التي ذكرها الله عز وجل في القرآن عند الحديث عن الأنبياء وأقوامهم ﴿فتولى عنهم وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي ونصحت لكم ولكن لا تحبون الناصحين﴾.
عطل الجهاديون فائدة النصيحة لهم بسبل شتى فهم لا يقبلون أية نصيحة أو حتى فتوى تأتيهم من خارج التيار بحجة أنه "لا يفتي قاعد لمجاهد" مع غمزهم ولمزهم بجميع من لم ينفر إلى ساحات الجهاد أو يسجن عند الطواغيت وقد يصل الحال إلى تكفيرهم أو على الأقل تبديعهم وإسقاط عدالتهم واتهامهم بشتى الاتهامات.
عندما يأتي جهاديو العراق إلى الشام وبدل أن يستفيدوا من أخطائهم في العراق صاروا يقولون لجبهة النصرة في الشام بعد أن حققت النصرة كتنظيم جهادي تقدماً يحسب لها في علاقتها مع عوام المسلمين ومع بقية الفصائل المجاهدة, فصار جماعة العراق يقولون لهم: هذه عراق 2004 ولا تتعبوا أنفسكم فجميع هذه الفصائل ستصير صحوات وتقاتلكم في المستقبل وسننزل حينها تحت الأرض ولا حل لهم إلا بالمفخخات والكواتم، هذا إصرار على عدم الانتفاع بالنصيحة ومتابعة نفس النهج، وما مثلهم إلا كرجل سلك طريقاً فوقع في حفرة, فجاء في اليوم التالي من نفس الطريق فبدل أن يتفادى الحفرة قال لنفسه إنني سأسقط فيها على كل حال فأحضر معه حبلاً وعصا حتى يستطيع الخروج من الحفرة بعد الوقوع فيها!!!.


ثامناً: ضعف التربية الربانية واتباع الهوى
كثير من أبناء التيار كحال كثير ممن يدخل الالتزام يكون تاركاً حديثاً لحياته الجاهلية وأمثال هؤلاء خاصة وكل أهل الإسلام يحتاج لتربية ربانية وتزكية للنفس للتخلص من أمراضها, وقد أقسم الله عز وجل أحد عشر يميناً في القرآن أنه قد أفلح من زكاها, وإلا فاستحكام أمراض القلوب في النفس لا يقل خطراً عن المعاصي والآثام السلوكية ومعظمها كالرياء والكبر والعجب والحسد والحقد تعد من كبائر الذنوب الموبقات، ومن أهم طرق تزكية النفس الزيادة في النوافل والأذكار ومراقبة النفس ومحاسبتها والالتزام مع علماء ربانيين والسير بتوجيهاتهم، كما يعلم أهل الفن.
لكن حياة الجهاد غير المستقرة والمليئة بالمشاغل تكون في الأغلب عائقاً عن تزكية النفس بهذي الطريقة, إضافةً إلى فهم خاطئ عند أبناء التيار مفاده أن الإكثار من الذكر والعبادات ما هو إلا لوثة صوفية أو كالبدعة في الدين، أضف إلى ذلك التأويلات التي مضمونها أن الجهاد واتباع المنهج الحق يغني عن النوافل والعبادات.
كل هذه العوامل وغيرها أدت إلى استمرار كثير من الأخلاق الجاهلية ولكن بثوب إسلامي, فترى الأخلاق المفسدة والمهلكة لكن بثوب سلفي إسلامي، فمثلاً الحقد والحسد والكبر يتجلى بشكل تكفير المحسود والمبغوض وتخوينه وازدرائه وسوء الظن فيه وتتبع عثراته وتضخيمها، والعجب والغرور يتجلى بمظهر الاعتزاز بالعقيدة والراية والمنهج، والسب والشتم ذاته لكن ليس الشتائم البذيئة المعروفة بل يستبدل بها يا كافر يا مرتد يا زنديق "سوف نسبي نساءكم أيها الصحوات"، مما حوَّل هذه الأخلاق الذميمة من معاصٍ يتاب منها، إلى بدع يتبنَّاها أصحابها ويرونها من الدين ويدافعون وينافحون عنها، ولذلك كانت البدعة أحب إلى إبليس من المعصية, لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها.
الأخطر في الموضوع استحكام هذه الأمراض الموبقة في رؤوس القوم والملأ منهم وهم الذين يُفترَض أن يكونوا الصفوة المصطفاة من القوم ولكن تلبس هذه الأمراض بلبوس الالتزام جعل من الصعب جداً كشفها وعلاجها.
تفشت بشكل كبير جداً ظاهرة الكذب والمبالغة في نقل أخبار المجاهدين وانتصاراتهم وتضخيمها حتى صارت مزعجة جداً, وفقدت مصادر الإعلام الجهادية مصداقيتها وصارت تنافس الطواغيت في كذبهم، واستحل أبناء التيار هذا أحياناً بتأويل سمج أنَّ الحرب خدعة.
والمقصود في الحديث خدعة الأعداء لكن عدونا يعرف في أغلب الأحوال حجم القضية فهي خدعة لإخواننا وكذب صريح، ولعب هذا دوره في حرف التيار كاملاً حيث نشأ لدينا جيل تربى على الإصدارات الجهادية ولا يعرف من حقيقة الجهاد إلا تلك الإصدارات والمنتديات الجهادية التي صارت مرتعاً للغلاة بل ولعملاء المخابرات وهذا معروف ومشهور، ولا أنسى قول ذلك الشاب الذي قابلته في ريف حلب وعمره لا يتجاوز ال14 عاماً حيث حدثني بثقة إن "الإخوة" في العراق سبوا مجندات أمريكيات!! فابتسمت له قائلاً: والله يا عين عمك هم الذين سبونا!!!
وقد ذكر كبار قادة الجهاد انزعاجهم من تلك المنتديات, ومن أراد الوقوف على شيء من هذا فليراجع وثائق أبوت أباد ليعرف مدى انزعاج مصلحي القوم من هذه المسألة؛ فتولت تلك الإصدارات والمنتديات تربية الشباب وتكوين أفكارهم ومنهجهم، وبشكل خاص أعني الشباب الذي لم ينزل للساحات وكان الجهاد بالنسبة له ما يشاهده من الإصدارات والأناشيد والمنتديات ومواقع التواصل الاجتماعي كالتويتر والفايسبوك، فأثَّرَ الكذب والتضليل في تكوين قناعاته وانحرافاته، فمثلاً المدافعون عن دولة العراق الإسلامية كانوا يستدلون على وجودها وتمكنها وسيطرتها بإصداراتها البراقة التي كانت تصدرها كل فترة مع أن الحقيقة أن الدولة المزعومة ما هي إلا تنظيم من التنظيمات التي يتخفى أفرادها ويهربون من منطقة إلى أخرى وأنه لا منطقة في العراق لا تطالها يد الأمريكان أو المالكي فإنهم يدخلون أي منطقة يريدونها ويقتحمونها وينكلون بأهلها متى وكيف شاؤوا، وعليه فلا وجود للدولة المزعومة وإنما هو تنظيم كغيره من التنظيمات جلّ عمله في الظلام وبظروف أمنية, وقد يستغل الضعف الأمني في بعض المناطق فيظهر ويعرض عضلاته لفترة وجيزة سرعان ما يهرب ويختفي بعدها، وقد كان الكفار يعلمون هذه الحقيقة لأنهم شركاء في صنعها والتعايش معها لكن الإصرار الإعلامي العجيب على أنها دولة كان خطوة كاذبة وسافرة وغير مبررة لخداع إخواننا الجهاديين والشرعيين الذين كان في ما قالوه دفاعاً عن تلك الدولة المزعومة أنها "امتدت" امتداداً إلى الشام وعليه فلا داعي لمشاورة أهل الشام أصلاً في ذلك الامتداد وشبهوا القضية بالخليفة الذي يفتح أرضاً جديدة فلا يجب عليه أخذ البيعة من أهلها!!!!!؟؟؟؟ وأرجو من القارئ أن يصدقني بأن هذا الكلام قد قيل فعلاً واستدل به وليس ضرباً من الخيال والافتراء!
هذا الاستحلال للكذب بلغ أشده ومداه وتجاوز كل وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني كالذي حدث عندما استحكم الاقتتال بين عصابة البغدادي وفصائل الشام فبدأت معرفات العصابة على التويتر إشاعة الأخبار التي تذكر اغتصاب نساء المهاجرين والاعتداء عليهن، مع أن الموجودين على الساحة يعلمون علم اليقين أنه لا أساس لهذه الأخبار من الصحة وهم أنفسهم يعلمون ذلك لكن كان قصدهم حشد الناس واستنفارهم للقتال من جهة وتبرير قتال العصابة لكل فصائل الشام برها وفاجرها، وإظهار أنفسهم بمظهر المظلوم المعتدى عليه من جهة أخرى، فالغاية تبرر الوسيلة عندهم، وعندما تسألهم عن المبرر لاستخدامهم المفخخات في قتل مخالفيهم يبررون بأن ذلك يوفر عليه قتل أكثر منهم وكأن الأصل قتلهم وقتالهم عندهم.  
لعب اتباع الهوى دوراً في ازدواجية التعامل مع الأحداث والوقائع والأدلة الشرعية كل ذلك لمصلحة الجماعة والتنظيم فكل واقعة وحادثة تستثمر لمصلحتنا ولذم الآخرين.
مثلاً إذا مدحت جهة محسوبة على الولاء للطواغيت أحداً من جماعتنا أعجبنا وهللنا وقلنا (والفضل ما شهدت به الأعداء). وإن كان الممدوح من غيرنا كفرناه وخوَّنَّاه ورميناه بتولي أعداء الدين.
إن حققنا انتصاراً فرحنا به وإن كان المنتصر غيرنا عزونا انتصاره إلى ما يتلقاه من دعم خارجي. وهكذا ولو تتبعنا الجزئيات لطالت القائمة وكثرت الأمثلة وإنما أردت التمثيل.
استعاض القوم عن الذكر وتلاوة القرآن والتدبر في معانيه بالأناشيد الحماسية التي بات يخلو كثير منها عن أي رسالة إلا القتل والتدمير مثل:
نعم نعم أنا أهوى الدمار                        أُسَرُّ إذا ما سمعت انفجار


تاسعاً: الخواء الفكري
فكل ما يعلمه القوم عن الفكر الإسلامي هو تكفير الديمقراطية والبرلمانات وأن من زلت قدمه من الإسلاميين فدخل المعترك الديمقراطي هم كفار خارجون عن دائرة الإسلام، وأنَّ الإخوان شرٌّ من العلمانيِّين، وأن مجرد اللقاء والجلوس مع الدول الغربية هو خيانة للإسلام, وكثيراً ما يكفرون فاعله أو يسقطونه دون النظر إلى الحيثيَّات، وأنَّ الجهاد "القتال" وحده هو السبيل لإقامة دولة الإسلام! هذه بضاعة القوم عن السياسة والفكر الإسلامي.
حدثني أحد المشايخ المربين الأفاضل أنهم في المعتقل قدموا شاباً حافظاً حسن الصوت ليؤمهم في الصلاة فكان لا يقرأ إلا بالأنفال والتوبة وبقي على ذلك زمنا حتى طلب منه الشيخ أن يقرأ من سور أخرَ فلم يفعل فلمَّا ألحَّ عليه انتفض غاضباً وسأله: وما هي مشكلتك مع هاتين السورتين؟! فأجابه الشيخ: بل أنت أخبرني ما هي مشكلتك مع 112 سورة من القرآن!!!؟
الأرضية السلفية مع المحدودية والجمود أبعدت قومنا عن السياسة إبعاداً منظماً, والإنسان عدو ما يجهل فعادوا السياسة وصارت تهمة ومنقصة، ومن أجبر من التنظيمات على أن يكون له بعض العلاقات السياسية صار يتعامل خائفاً من التهمة والقيل والقال وصار همُّه تبرئة نفسه من التهمة مع أن مشايخ الجهاد الأوائل كان لهم حظ وافر من العلم بالسياسة وممارستها, فها هو الشيخ عبد الله عزام رحمه الله كان يسافر للدول الغربية ويحضر الاجتماعات والمؤتمرات ولكن الغلو وصل إلى ذروته بعد أحداث أيلول وقضية الحرب على الإرهاب.
من أهم المشاكل في هذا المضمون تعامل الجماعة مع القضايا العامة التي تمس الأمة كتنظيم وليس على أنهم مسؤولون عن أمة أمام الله عز وجل وأوضح القضية بمثال:
النبي صلى الله عليه وسلم عندما كان في مكة كانت عنده مشكلة المستضعفين من المسلمين تحت التعذيب والاضطهاد وكيفية حمايتهم؛ بالنسبة لشخصه الكريم وعائلته كان عنده بعض الحلول الفردية كوضعه القبلي في قريش، أو أن يستجير بفلان، وكذلك عندما هاجر للمدينة أرسل بلالاً أن يأتي بأهله، ولكنه ولكونه مسؤولاً عن أمة كان مطالباً بحل عام يسير يشمل غالبهم، فأرشدهم للذهاب إلى الحبشة ومدح النجاشي بقول تناقلته الدنيا ووصفه بأنه "لا يُظلَم أحدٌ عنده" وتواصل معه وأرسل له الرسل ووو فهذا كان تصرفاً سياسياً ونوعاً من التواصل مع ملك كافر بوسائل جائزة, والهدف تحقيق مصلحة غالبة للمسلمين، والقيام بحق المسؤولية أمام الأمة.
الآن في الشام مثلاً نمرُّ بوضعٍ مشابه بعض الشيء فبالنسبة لجماعةٍ أو تنظيم فإنه يستطيع إيجاد حل فردي لأفراده وعوائلهم يسدّ عوزهم ويعينهم مادياً ويؤمن الحماية والمأوى لهم، ولكن أحداً لا يستطيع تجاهل حاجة الأمة في مسألة النزوح إلى تركيا مثلاً وبالتالي ضرورة القيام بعلاقات من نوع ما مع الدولة التركية من أجل نازحي المخيمات من الأمة التي نحن مسؤولون عنها، وهناك معابر محررة مع الأتراك تدخل منها الإغاثات والمساعدات الإنسانية التي تصل لآلاف المسلمين ويستخدمها الناس لحاجاتهم، ولا بد أن تدار بشكل مشترك، هذا أمر واقع لا يمكن لأي جماعة ترى نفسها مسؤولة عن الأمة تجاهله، ولكننا في واقع سلفي جهادي يعتبر أي علاقة أو أي اجتماع مع "الطواغيت" تهمةً وكفراً فما الحل؟! إما أن نغلب مصلحة الأمة على القيل والقال أو أن ننغلق على أنفسنا كتنظيم ونحفظ أنفسنا من التهمة ولْتَتَدَبَّر الأمة أمرها، مع راعٍ آخر لشؤونها قد يكون علمانياً أو ديمقراطياً، ثم نصرخ لماذا لا تتقبل الناس المشروع الإسلامي!!!؟.
الخواء الفكري جعل أبناء التيار يشترطون شروطا على غيرهم من الجماعات شروطاً غريبة للتأكد من نقاء عقيدتهم, منها أن يجهروا بتكفير وعداوة جميع الحكومات والأنظمة التي تحكم الشعوب المسلمة! ويرون ذلك من "ملة إبراهيم" التي لا يصح الإيمان إلا بها، جعلهم يخونون كل مسافر بين المعابر الدولية واشترك في المؤتمرات التي يكون فيها خليط من البر والفاجر، وكل من تواصل مع العلماء الذين يتهمونهم، ولا يتعلمون من الكتاب والسنة وفعل السلف في مسائل السياسة الشرعية، فانظر إلى نبي بني إسرائيل الذي قال له ملؤهم -والملأ في القرآن لا يُذكر إلا في معرض الذم وهذا واضح في الآيات التي بعدها عندما نازعوا في تمليك طالوت- ماذا فعل عندما أرادوا أن يقاتلوا في سبيل الله كيف استفاد من موقفهم هذا واستثمره وحشد بني إسرائيل عليه حتى كانت نهاية القصة هي العصر الذهبي في بني إسرائيل وهي حكم داود وسليمان.
عدم إدراك هذه المسائل كان سبباً رئيسياً في التخوين والتكفير وسوء الظن بكثير من الجماعات وغالباً ما يكونون سواد الأمة، ويتبع ذلك استحلال قتلهم وقتالهم، وانفصال التنظيمات الجهادية عن واقع الأمة مما سهل على أعدائها عزلها وتصفيتها.
لا بد أن يعي أبناء التيار الجهادي أنه لا مناص لهم من اتباع خط سياسي منضبط يتمتعون به بعلاقات ومواقف سياسية بشرط أن تكون بدون تنازلات عن ثوابت المنهج وأن تكون مصلحة الأمة الراجحة دليلهم في ذلك، وعليهم أن يعلموا أن خوفهم ودفنهم للرأس في الرمال لن ينفعهم إذ فرطوا بواجباتهم تجاه أمة هم مسؤولون عن حماية ورعاية شؤونها.













هل سرق "المنهج" في كل مرة
أم أن هذا المنهج طالما بقي مستنداً لنفس الأسس والضوابط التي تكلمنا عنها سيبقى ينتج لنا الجهل والغلو وعقيدة الخوارج؟!!!!
حل هذه المسألة ضروري لإصلاح السلفية الجهادية وإنقاذها من أن تطالها سنة الاستبدال الربانية التي لا تحابي أحداً, فطالما بقي اعتماد القوم على المنهج نفسه فلن يتمكنوا من الإصلاح وسيأكلون الضربة تلو الضربة ولن يستفيدوا منها.
ومن أمثلة ذلك في الجهاد الشامي جبهة النصرة التي بدأت صفحة مجيدة من الجهاد في الشام وأصلحت العلاقة مع الأمة كانت في بدايتها تعتز بانتسابها لدولة العراق وتنافح عنها وتعتبر نفسها مدينة بالسمع والطاعة ل"أمير المؤمنين حفظه الله" فلما شرف أمير المؤمنين الساحة الشامية بحضوره وبدأت طاماته وكوارث جماعته بالظهور (فجروا هنا، اضربوا هناك) وقعوا في مأزق وكادت جماعتهم أن تنهار فلما أكرمهم الله بالتماسك والنهوض مرة راحوا وربطوا أنفسهم بالقاعدة في أفغانستان!!
لا أدعي هنا أن الشيخ الظواهري حفظه الله كالمجرم البغدادي حاشاه, ولكن قضية البيعة إلى ما وراء البحار أثبتت عدم فعاليتها واقعياً لصعوبة التواصل وعدم متابعة الأمور، مع ضعف الإحاطة بالتفاصيل، فإذا أتاهم ما لا يعجبهم من القول (كوصيته إياهم بالاصطفاف مع الأمة والتخلي عن الاسم والحزب والدخول في الجبهة الإسلامية) قالوا الشيخ بعيد عن الواقع ولم يعملوا بنصيحته، وإن أتاهم ما يعجبهم (كالحكم بينهم وبين الدولة) هللوا وكبروا وطبَّلوا به في المجالس وسرَّبوه للفضائيات، مما أعطى انطباعاً لكثير من الناس أن هذه العلاقة علاقة نفعية واسمية أكثر منها بيعة شرعية وارتباطاً تنظيمياً، فواضح أن الجماعة لم تتعلم درساً من الضربة التي أكلتها من عصابة البغدادي!.
بصراحة كون المنهج يسرق في كل مرة وفي كل ساحة ولم تسلم ساحة من الغلاة أبداً, كل هذا دليل على أن بذور الخلل تكمن في المنهج نفسه، بدليل أن الغلو لم يظهر في جماعة الطالبان الحنفية مع أن جميع المقومات التي ظهرت في الساحات الأخرى وأنتجت الغلو موجودة مع زيادة في الساحة الأفغانية خاصة وجود فرقاء متناحرين متقاتلين فيما بينهم مع تواجد للصليبية العالمية في تحالف ضم أكثر من 35 دولة، كل ذلك لم يدفع طالبان إلى الغلو والتطرف واستباحة دماء المخالفين بغير وجه حق، ولا حتى للانعزال عن الأمة الأفغانية, بل على العكس من ذلك تماماً ظلت متماسكة مع الشعب واستعصت على أشرس حملة صليبية عرفها التاريخ ضد دولة مسلمة وظلت صامدة متماسكة، ويرجع ذلك بصراحة مؤلمة بعض الشيء إلى أنها لم تتخذ المرجعية السلفية بمفهومها الحالي دليلاً على الإطلاق، وقد أثبت منهجها -على ما قد يكون فيه من انحرافات وبدع لم تخل منها الأمة منذ عصر الخلافة الراشدة- أنه عصيٌ على "السرقة" من أصحاب الغلو، وهذه ظاهرة جديرة بالدراسة والتأمل!
سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين.